- عنتر فتح اللهالمدير
تاريخ فلسطين .... 6 ...... يتبع
الخميس مارس 26, 2009 6:42 pm
البناء الروماني لبيت المقدس:
"إيليوس أدريانوس" أو "هادريانوس".. هذا هو الإمبراطور الروماني الكبير ـ ويُوصف بأنه "كان من أقدر الرجال الذين شغلوا منصب الإمبراطور على مر التاريخ" ـ الذي ارتبط اسمه ببناء مدينة بيت المقدس، وتشييدها على الطراز الروماني، ففي عام اثنين وثلاثين ومائة للميلاد ضيق الإمبراطور على اليهود، ومنعهم من تأدية بعض طقوسهم العبادية في بيت المقدس، فثاروا ضده، ونجحوا في السيطرة على المدينة المقدسة ثلاث سنوات، إلا أن الإمبراطور جرد حملة قوية لإخضاع المدينة، فاستولى الرومان على خمسين قلعة، ودمروا قرابة ألف قرية، وقتلوا عددًا كبيرًا من اليهود، "أما مَنْ لاقَوْا حَتْفَهُمْ جوعًا، أو بالطاعون، أو في الحدائق، فلا يستطيع أحد أن يُحْصِيَهُمْ ـ كما يقول بعض المؤرخين ـ وهكذا خُرِّبت يهوذا تقريبًا"، وصارت قرية مدمرة.
وأصبحت القدس محظورة "الدخول على مَنْ بقي من اليهود بعد الحرب، وشتت الرومان من بقي منهم فوق جبل صهيون، ولم تعد هناك جماعات يهودية في ضواحي المدينة".
لقد كان اعتزام أدريانوس عام مائة وثلاثين إنشاء مدينة جديدة فوق أطلال القدس، هو السبب الرئيسي الذي دعا اليهود إلى الثورة عليه، إذ كان إنشاء هذه المدينة يعني إنشاء معابد وثنية، وتمجيد معتقدات الإمبراطور في المدينة المقدسة.
وبعد أن تخلص أدريانوس من المعارضة اليهودية لمشروع مدينته، عهد إلى روفوس تيمايوس بإنشاء مدينته الجديدة، التي أسماها إيليا كابيتولينا، لتحمل اسمه، وتكرم معبوداته الوثنية في الكابيتول في روما، اعتقادًا منه أنهم سيَرْعَوْنَها له.
وعند التنفيذ قام العاملون بفلح أرض المدينة وإعدادها للبناء، وأقيمت مدينة حديثة، فيها معابد ومسرح، وتجمعات سكنية، وبِركة مياه، وسوقان.
القدس في صدر الإسلام:
ما من صفحات في تاريخ القدس الشريف أنصع ولا أبهى من تلك التي كانت في عهد الرسالة المحمدية؛ إذْ جاء الارتباط فيها بين خاتم رسل الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين واحدة من البقاع الطاهرة التي باركها الله وبارك ما حولها..
وأُولى الصفحات المحمدية للقدس تمثلت في معجزة الإسراء والمعراج، والثانية في توجهه ومن معه من المسلمين في صلاتهم إلى بيت المقدس..
ومنذ البدء لم يكن المسلمون يبحثون عن حرب تراق فيها الدماء، بل كانوا يفتشون عن قلوب تستجيب للنداء الرفيق الرحيم الذي يقودها إلى الله، لذا حزن المؤمنون في مكة لِمَا أصاب الروم من هزيمة مؤلمة أمام الفرس، ضاع فيها بيت المقدس من يد الروم وسقط في يد المجوس، وتفاعل أتباع النبي الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع القرآن وهو يبشر بانتصار الروم من جديد، مما يعني استرجاع الرومان بيت المقدس..
وتطلع رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن تصير القدس وغيرها في حوزة أهل الإيمان، مهما تكن جنسيتهم وألوانهم، فكتب إلى هرقل "عظيم الروم" يدعوه وقومه إلى الإسلام، لا لينزع منهم ملكهم، ولكن ليدلهم على ما يجمع لهم خير الدنيا والآخرة..
وشاءت المقادير الإلهية أن تكون الحماقة سببا لإثارة الحرب بين المسلمين والروم، فقد قتل أتباع أمير غسان المُوَالي للروم حاملَ كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه، فوقعت الحرب في مؤتة وتبوك حيث بشر النبي بفتح بيت المقدس. وفي آخر عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدنيا أمر بتجهيز جيش كبير جعل القيادة فيه لأسامة بن زيد ليغزو أطراف الشام، وحين دنا الرحيل النبويّ عن الدنيا لم يكن الجيش قد خرج لمهمته، فأوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإنفاذ بعث أسامة.
وكان أول أعمال الصديق أبي بكر في خلافته إنفاذ هذا البعث، على الرغم من فتنة المرتدّين الخطيرة التي هددت المدينةَ نفسَها، بل هددت كيان الإسلام كلَّه.
وبعد إخماد نار الردة تفرغ المسلمون للفتح، وإفساح الطريق أمام الإسلام ومبادئه، لتسمع الدنيا صوته، وليعرف الخلق سموه وعلوّه، فأرسل أبو بكر جيوش الفتح والغزو..
ولم يكن المسلمون أبدا بادئين بالاعتداء، بل سبقهم الفرس إلى ذلك بتأييد حركات الردة والتمرد في جزيرة العرب، وسبقهم الروم حينما قتلوا السفير الذي بعثه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حاكم بُصرى التابع لهم.. ودخل المسلمون في جولات حربية حاسمة مع الفرس والروم، على رأسها اليرموك وأجْنَادِين والقادسية ونهاوند..
واختُصَّت أجنادين كفاتح للطريق إلى بيت المقدس، حيث انهارت الدفاعات الرومانية أمام بسالة المسلمين، وصارت لآلئ فلسطين في أيديهم، وتيسَّر حصار الروم في إيلياء أو بيت المقدس، وتلا ذلك الصلح التاريخي الذي أجراه عمر بن الخطاب مع سكان المدينة سنة ست عشرة من الهجرة، وجاءت الوثيقة العُمَريّة لأهل بيت المقدس مجسِّدةً لمبدأ الرحمة والوفاء، ومُقِرَّة بمبدأ حرية الاعتقاد.
وكان الفاروق عمر، وهو يسير نحو بيت المقدس ويتسلم مفاتيحها، كعادته نموذجًا للزهد والتواضع والسماحة والرحمة..
الإسراء والارتباط ببيت المقدس:
بينما تُظِلُّ الناسَ السنةُ العاشرة لبعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي رحلة ليلية غيرِ متقيدة بقوانين الزمان والمكان، أسرى الله سبحانه بخاتم رسله، من البقاع الطاهرة إلى الأرض المباركة، من مكة إلى بيت المقدس، لتتحدد هُويّة هذا الدين بصورة كاملة قبل أن تصبح للإسلام دولة، وليتحدد أيضا نوع الارتباط بين المسلمين وبين بيت المقدس:
أما هوية هذا الدين، فقد تحددت أهم ملامحها وأعمها حين وقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أيام دعوته الأولى، يدعو إلى ملة إبراهيم حنيفا، ويتمسك باحترام البيت الحرام وإجلاله، وإبراهيمية الرسالة المحمدية دعوة إلى التجمع حول الراية التي رفعها الخليل إبراهيم قبل الميلاد بحوالي ألفي سنة، وتابعه عليها الأنبياء من بعده، خاصة موسى وعيسى ومحمدا ـ عليهم الصلاة والسلام.
واكتمل تحديد هذه الهُوِيَّة بصورة عملية في رحلة الإسراء والمعراج، حين ظهر الولاء بين الأنبياء، وتصديق كلٍّ بصدق الآخر، وتسليمهم بتقديم خاتم الرسل على أنفسهم، وأنه مواصل لطريق الدعوة الذي سلكوه. لقد أعلنت الرحلة أنه مسلم وأنهم مسلمون، لتُجسِّد ذلك المعنى القرآني العام، الذي يؤكد أن الرسول محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلة لمن سبقه من الأنبياء، وشبيه بهم فيما يعتقد ويؤمن به، وإن كان لا نبي بعده.
وأما نوع الارتباط بين المسلمين وبين القدس، فقد حددت الرحلة أنه ارتباط عقيدة، إذ جمع الواحد الأحد بين الصفوة المختارة من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ليُصَلُّوا خلف خاتمهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يعني وراثته لعقيدة التوحيد السماوية، مرتبطة بالموطن الذي شهد أكبر حشد من رسل الله السابقين عليه.
وأعلنت هذه الوراثة المباركة عن إحدى خصائص الرسالة المحمدية، وهو شمولها للزمان كله، وعمومها للأمم كلها، فكل الرسل صلوا خلفه، إعلانا منهم عن إيمانهم برسالته وصدق نبوّته، وأن أتباعهم تشملهم رسالته إلى يوم الدين، كما شملت الأنبياء صلاته وإمامته.
القدس والمعراج:
رحلة المعراج كانت سفرا إلى عوالم تَلْبس الطُّهْرَ، وترتدي أثواب القداسة، وجرت فيها لقاءات للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالملائكة والأنبياء، بل كلم النبيُّ الكريم ربَّه، وتلقَّى منه فرض الصلاة مباشرة، وانتهى المقام برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند سدرة المنتهى، وهو موضع أرفع من السماء السابعة...
ورحلة بهذا المقام لابد أن تكون البدايةُ الأرضية لها كريمة شريفة، وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن تكون مدينة بيت المقدس هي موضع هذه البداية، حيث عُرج برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فوق صخرة المعراج إلى السموات العلا..
إن الفترة التي يقضيها الإنسان فوق هذه الأرض، أشبه ما تكون برحلة الإسراء في اشتمالها على عمل واختيار بين اللبن والخمر؛ (أو الهداية والضلالة). وأما المعراج، فقد مثل بيانا للطريقة التي بها تكون المسيرة الفردية والجماعية صحيحة، وهي الارتفاع فوق طين الأرض، والترفُّع عن المعصية، وعدم الانقطاع عن هَدْي السماء.
وعلاقة بيت المقدس بذلك، أن أهل المسجد الحرام أتباعَ نبي الإسراء، هم أيضا أهل المسجد الأقصى وبيت المقدس، وسبيلهم إلى الفلاح في دار الدنيا ودار الآخرة، هو ألا ينقطعوا عن هَدْي السماء الذي أرسل الله به رسوله.
كتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل:
من خصائص دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أُرسل إلى الناس كافة، وقد مثلت الكتب التي بعث بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك والقادة في عصره، تجليا واضحا لهذه الخصيصة؛ فقد تخطى الجغرافيا بكل أنواعها، وكتب إلى كسرى وقيصر وملوك اليمن وعمان ومصر وغيرها، يدعوهم إلى الإسلام..
وقد أقبل دِحْيةُ بنُ خليفةَ من المدينة نحو الشام، يحمل كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل قيصر الروم، في وقت كان فيه الرومان في قمة النشوة لانتصارهم الكبير على الفرس، واستعادتهم الممتلكات الاستعماريةَ التي سلبها منهم عدوهم المجوسي، وعلى رأسها بيت المقدس، الذي نذر هرقل أن يسير إليه من حمص سيرا على قدميه، حيث أقام احتفالاتٍ صاخبةً بالنصر الكبير.
وشق الصحراءَ نفسَها الحارث بن عمير الأزْدِيّ، يحمل كتاب الدعوة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير بُصْرَى ؛ حليف الروم وخادمهم.
أما هرقل، فمع تأثره بالكتاب، فإنه كان يجيد أعمال السياسة، فرد على كتاب رسول الله ردًا ليّنا، في حين غَلبت الجلافة الآخرين، فقَتل أعرابيٌّ من غَسَّانَ رسولَ المسلمين إلى أمير بُصْرَى، قتله باسم هرقلَ.
وارتفعت دماء الحماقة إلى رأس أمير بُصْرَى، فبعث إلى هرقلَ يستأذنه في غَزْوِ المدينة المنوَّرة، إلا أن هرقلَ رغب في ألا يعكِّر كؤوس احتفاله بالانتصار على الفرس أيُّ شيء، وفضَّل أن يكون أمير بصرى من الخدم الحاضرين معه احتفالَ الروم في بيت المقدس باسترجاع الصليب الأكبر من الفرس.
"إيليوس أدريانوس" أو "هادريانوس".. هذا هو الإمبراطور الروماني الكبير ـ ويُوصف بأنه "كان من أقدر الرجال الذين شغلوا منصب الإمبراطور على مر التاريخ" ـ الذي ارتبط اسمه ببناء مدينة بيت المقدس، وتشييدها على الطراز الروماني، ففي عام اثنين وثلاثين ومائة للميلاد ضيق الإمبراطور على اليهود، ومنعهم من تأدية بعض طقوسهم العبادية في بيت المقدس، فثاروا ضده، ونجحوا في السيطرة على المدينة المقدسة ثلاث سنوات، إلا أن الإمبراطور جرد حملة قوية لإخضاع المدينة، فاستولى الرومان على خمسين قلعة، ودمروا قرابة ألف قرية، وقتلوا عددًا كبيرًا من اليهود، "أما مَنْ لاقَوْا حَتْفَهُمْ جوعًا، أو بالطاعون، أو في الحدائق، فلا يستطيع أحد أن يُحْصِيَهُمْ ـ كما يقول بعض المؤرخين ـ وهكذا خُرِّبت يهوذا تقريبًا"، وصارت قرية مدمرة.
وأصبحت القدس محظورة "الدخول على مَنْ بقي من اليهود بعد الحرب، وشتت الرومان من بقي منهم فوق جبل صهيون، ولم تعد هناك جماعات يهودية في ضواحي المدينة".
لقد كان اعتزام أدريانوس عام مائة وثلاثين إنشاء مدينة جديدة فوق أطلال القدس، هو السبب الرئيسي الذي دعا اليهود إلى الثورة عليه، إذ كان إنشاء هذه المدينة يعني إنشاء معابد وثنية، وتمجيد معتقدات الإمبراطور في المدينة المقدسة.
وبعد أن تخلص أدريانوس من المعارضة اليهودية لمشروع مدينته، عهد إلى روفوس تيمايوس بإنشاء مدينته الجديدة، التي أسماها إيليا كابيتولينا، لتحمل اسمه، وتكرم معبوداته الوثنية في الكابيتول في روما، اعتقادًا منه أنهم سيَرْعَوْنَها له.
وعند التنفيذ قام العاملون بفلح أرض المدينة وإعدادها للبناء، وأقيمت مدينة حديثة، فيها معابد ومسرح، وتجمعات سكنية، وبِركة مياه، وسوقان.
القدس في صدر الإسلام:
ما من صفحات في تاريخ القدس الشريف أنصع ولا أبهى من تلك التي كانت في عهد الرسالة المحمدية؛ إذْ جاء الارتباط فيها بين خاتم رسل الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين واحدة من البقاع الطاهرة التي باركها الله وبارك ما حولها..
وأُولى الصفحات المحمدية للقدس تمثلت في معجزة الإسراء والمعراج، والثانية في توجهه ومن معه من المسلمين في صلاتهم إلى بيت المقدس..
ومنذ البدء لم يكن المسلمون يبحثون عن حرب تراق فيها الدماء، بل كانوا يفتشون عن قلوب تستجيب للنداء الرفيق الرحيم الذي يقودها إلى الله، لذا حزن المؤمنون في مكة لِمَا أصاب الروم من هزيمة مؤلمة أمام الفرس، ضاع فيها بيت المقدس من يد الروم وسقط في يد المجوس، وتفاعل أتباع النبي الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع القرآن وهو يبشر بانتصار الروم من جديد، مما يعني استرجاع الرومان بيت المقدس..
وتطلع رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن تصير القدس وغيرها في حوزة أهل الإيمان، مهما تكن جنسيتهم وألوانهم، فكتب إلى هرقل "عظيم الروم" يدعوه وقومه إلى الإسلام، لا لينزع منهم ملكهم، ولكن ليدلهم على ما يجمع لهم خير الدنيا والآخرة..
وشاءت المقادير الإلهية أن تكون الحماقة سببا لإثارة الحرب بين المسلمين والروم، فقد قتل أتباع أمير غسان المُوَالي للروم حاملَ كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه، فوقعت الحرب في مؤتة وتبوك حيث بشر النبي بفتح بيت المقدس. وفي آخر عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدنيا أمر بتجهيز جيش كبير جعل القيادة فيه لأسامة بن زيد ليغزو أطراف الشام، وحين دنا الرحيل النبويّ عن الدنيا لم يكن الجيش قد خرج لمهمته، فأوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإنفاذ بعث أسامة.
وكان أول أعمال الصديق أبي بكر في خلافته إنفاذ هذا البعث، على الرغم من فتنة المرتدّين الخطيرة التي هددت المدينةَ نفسَها، بل هددت كيان الإسلام كلَّه.
وبعد إخماد نار الردة تفرغ المسلمون للفتح، وإفساح الطريق أمام الإسلام ومبادئه، لتسمع الدنيا صوته، وليعرف الخلق سموه وعلوّه، فأرسل أبو بكر جيوش الفتح والغزو..
ولم يكن المسلمون أبدا بادئين بالاعتداء، بل سبقهم الفرس إلى ذلك بتأييد حركات الردة والتمرد في جزيرة العرب، وسبقهم الروم حينما قتلوا السفير الذي بعثه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حاكم بُصرى التابع لهم.. ودخل المسلمون في جولات حربية حاسمة مع الفرس والروم، على رأسها اليرموك وأجْنَادِين والقادسية ونهاوند..
واختُصَّت أجنادين كفاتح للطريق إلى بيت المقدس، حيث انهارت الدفاعات الرومانية أمام بسالة المسلمين، وصارت لآلئ فلسطين في أيديهم، وتيسَّر حصار الروم في إيلياء أو بيت المقدس، وتلا ذلك الصلح التاريخي الذي أجراه عمر بن الخطاب مع سكان المدينة سنة ست عشرة من الهجرة، وجاءت الوثيقة العُمَريّة لأهل بيت المقدس مجسِّدةً لمبدأ الرحمة والوفاء، ومُقِرَّة بمبدأ حرية الاعتقاد.
وكان الفاروق عمر، وهو يسير نحو بيت المقدس ويتسلم مفاتيحها، كعادته نموذجًا للزهد والتواضع والسماحة والرحمة..
الإسراء والارتباط ببيت المقدس:
بينما تُظِلُّ الناسَ السنةُ العاشرة لبعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي رحلة ليلية غيرِ متقيدة بقوانين الزمان والمكان، أسرى الله سبحانه بخاتم رسله، من البقاع الطاهرة إلى الأرض المباركة، من مكة إلى بيت المقدس، لتتحدد هُويّة هذا الدين بصورة كاملة قبل أن تصبح للإسلام دولة، وليتحدد أيضا نوع الارتباط بين المسلمين وبين بيت المقدس:
أما هوية هذا الدين، فقد تحددت أهم ملامحها وأعمها حين وقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أيام دعوته الأولى، يدعو إلى ملة إبراهيم حنيفا، ويتمسك باحترام البيت الحرام وإجلاله، وإبراهيمية الرسالة المحمدية دعوة إلى التجمع حول الراية التي رفعها الخليل إبراهيم قبل الميلاد بحوالي ألفي سنة، وتابعه عليها الأنبياء من بعده، خاصة موسى وعيسى ومحمدا ـ عليهم الصلاة والسلام.
واكتمل تحديد هذه الهُوِيَّة بصورة عملية في رحلة الإسراء والمعراج، حين ظهر الولاء بين الأنبياء، وتصديق كلٍّ بصدق الآخر، وتسليمهم بتقديم خاتم الرسل على أنفسهم، وأنه مواصل لطريق الدعوة الذي سلكوه. لقد أعلنت الرحلة أنه مسلم وأنهم مسلمون، لتُجسِّد ذلك المعنى القرآني العام، الذي يؤكد أن الرسول محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلة لمن سبقه من الأنبياء، وشبيه بهم فيما يعتقد ويؤمن به، وإن كان لا نبي بعده.
وأما نوع الارتباط بين المسلمين وبين القدس، فقد حددت الرحلة أنه ارتباط عقيدة، إذ جمع الواحد الأحد بين الصفوة المختارة من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ليُصَلُّوا خلف خاتمهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يعني وراثته لعقيدة التوحيد السماوية، مرتبطة بالموطن الذي شهد أكبر حشد من رسل الله السابقين عليه.
وأعلنت هذه الوراثة المباركة عن إحدى خصائص الرسالة المحمدية، وهو شمولها للزمان كله، وعمومها للأمم كلها، فكل الرسل صلوا خلفه، إعلانا منهم عن إيمانهم برسالته وصدق نبوّته، وأن أتباعهم تشملهم رسالته إلى يوم الدين، كما شملت الأنبياء صلاته وإمامته.
القدس والمعراج:
رحلة المعراج كانت سفرا إلى عوالم تَلْبس الطُّهْرَ، وترتدي أثواب القداسة، وجرت فيها لقاءات للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالملائكة والأنبياء، بل كلم النبيُّ الكريم ربَّه، وتلقَّى منه فرض الصلاة مباشرة، وانتهى المقام برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند سدرة المنتهى، وهو موضع أرفع من السماء السابعة...
ورحلة بهذا المقام لابد أن تكون البدايةُ الأرضية لها كريمة شريفة، وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن تكون مدينة بيت المقدس هي موضع هذه البداية، حيث عُرج برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فوق صخرة المعراج إلى السموات العلا..
إن الفترة التي يقضيها الإنسان فوق هذه الأرض، أشبه ما تكون برحلة الإسراء في اشتمالها على عمل واختيار بين اللبن والخمر؛ (أو الهداية والضلالة). وأما المعراج، فقد مثل بيانا للطريقة التي بها تكون المسيرة الفردية والجماعية صحيحة، وهي الارتفاع فوق طين الأرض، والترفُّع عن المعصية، وعدم الانقطاع عن هَدْي السماء.
وعلاقة بيت المقدس بذلك، أن أهل المسجد الحرام أتباعَ نبي الإسراء، هم أيضا أهل المسجد الأقصى وبيت المقدس، وسبيلهم إلى الفلاح في دار الدنيا ودار الآخرة، هو ألا ينقطعوا عن هَدْي السماء الذي أرسل الله به رسوله.
كتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل:
من خصائص دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أُرسل إلى الناس كافة، وقد مثلت الكتب التي بعث بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك والقادة في عصره، تجليا واضحا لهذه الخصيصة؛ فقد تخطى الجغرافيا بكل أنواعها، وكتب إلى كسرى وقيصر وملوك اليمن وعمان ومصر وغيرها، يدعوهم إلى الإسلام..
وقد أقبل دِحْيةُ بنُ خليفةَ من المدينة نحو الشام، يحمل كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل قيصر الروم، في وقت كان فيه الرومان في قمة النشوة لانتصارهم الكبير على الفرس، واستعادتهم الممتلكات الاستعماريةَ التي سلبها منهم عدوهم المجوسي، وعلى رأسها بيت المقدس، الذي نذر هرقل أن يسير إليه من حمص سيرا على قدميه، حيث أقام احتفالاتٍ صاخبةً بالنصر الكبير.
وشق الصحراءَ نفسَها الحارث بن عمير الأزْدِيّ، يحمل كتاب الدعوة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير بُصْرَى ؛ حليف الروم وخادمهم.
أما هرقل، فمع تأثره بالكتاب، فإنه كان يجيد أعمال السياسة، فرد على كتاب رسول الله ردًا ليّنا، في حين غَلبت الجلافة الآخرين، فقَتل أعرابيٌّ من غَسَّانَ رسولَ المسلمين إلى أمير بُصْرَى، قتله باسم هرقلَ.
وارتفعت دماء الحماقة إلى رأس أمير بُصْرَى، فبعث إلى هرقلَ يستأذنه في غَزْوِ المدينة المنوَّرة، إلا أن هرقلَ رغب في ألا يعكِّر كؤوس احتفاله بالانتصار على الفرس أيُّ شيء، وفضَّل أن يكون أمير بصرى من الخدم الحاضرين معه احتفالَ الروم في بيت المقدس باسترجاع الصليب الأكبر من الفرس.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى